التحركات التركية في سورية: أهداف متشابكة تحت قناع الإنسانية
محمد ناس
محمد ناس
تتحرك تركيا في الساحة السورية كمن يمشي على حبل مشدود بين المعلن والخفي، مستغلة حالة التشرذم التي أصابت هذا البلد الغارق في صراعاته. تحت ستار إنساني من الشعارات البراقة، تسعى أنقرة لترسيخ نفوذها في الشمال السوري، لكن خلف هذه الواجهة تتشابك المصالح وتتناقض الأهداف، لتكشف عن مشهد معقد تتداخل فيه الاستراتيجيات الإقليمية والدولية.
قناع الإنسانية وتبدّل الخرائط الديموغرافية
تتصدّر أنقرة خطابها بعبارة «إعادة اللاجئين»، في صورة تبدو إنسانية ومثالية. لكنها، في واقع الأمر، أشبه بمن يعيد ترتيب رقعة الشطرنج لصالحه. فالمناطق التي تُعدّ لإيواء اللاجئين هي ذاتها التي تخضع لسيطرة القوات التركية، حيث يُعاد تشكيل تركيبتها السكانية بطريقة تحمل في طياتها بذور توترات مستقبلية قد تمتد لعقود.
يُضاف إلى ذلك السعي التركي إلى إنشاء ما يشبه «المنطقة العازلة»، لكنها ليست عازلة للصراعات بقدر ما هي عازلة للأكراد عن تحقيق أيّ حلم بالحكم الذاتي. هنا، تتحوّل «مكافحة الإرهاب» إلى أداة تُشهرها أنقرة في وجه وحدات حماية الشعب الكردية، لتوسيع دائرة نفوذها وفرض واقع جديد يخدم مصالحها، في ظلّ صمت دولي أقرب إلى التواطؤ.
أما في شمال سورية، تبرز التحالفات المتناقضة والعلاقات المعقدة. مع احتدام الصراع على السلطة تتحوّل الجماعات المسلحة إلى أوراق ضغط متبادلة. هيئة تحرير الشام، التي تُصنّف دولياً كمنظمة إرهابية، تجد في علاقتها مع تركيا منفذاً لتحسين صورتها، بينما تجد أنقرة في هذه العلاقة أداة لتعزيز سيطرتها، وإنْ كان ذلك على حساب استمرار الفوضى. هذه العلاقة ليست سوى انعكاس لبراغماتية سياسية تحكمها المصلحة الضيقة، لكنها تضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى المشهد السوري الذي يبدو كفسيفساء محطمة.
فيما تشكل التحركات التركية حجراً في رقعة الشطرنج السورية، تتقاطع مصالح أنقرة مع أطراف أخرى. فروسيا تحكم قبضتها على الغرب السوري، وتعمل الولايات المتحدة على حماية المناطق الكردية في الشرق، بينما تمدّ «إسرائيل» نفوذها في الجنوب. أما دمشق، التي كانت يوماً قلب سورية النابض، فتبدو اليوم كجسد منهك يسعى كلّ طرف لاقتطاع جزء منه.
هكذا، تُرسم حدود جديدة، غير رسمية، لسورية: كانتونات متصارعة يحكمها شتات النفوذ الإقليمي والدولي. وإذا استمرّ هذا الواقع، فإنّ الحديث عن وحدة سورية قد يصبح مجرد حلم بعيد المنال.
إيران: اللاعب الصبور وسط صراع العمالقة
على النقيض من التحركات الصاخبة التي تنفذها أنقرة وغيرها من القوى، تظهر إيران كلاعب صبور ينسج خيوطه بهدوء، كما ينسج صانع السجاد تحفته. في هذا المشهد المضطرب، تعتمد طهران استراتيجيتها التقليدية: مراقبة المشهد بصبر، انتظار لحظة الانقضاض المدروس.
تبدو إيران وكأنها تفكر في المستقبل البعيد، حين تهدأ العواصف ويستفيق الجميع على حقيقة أنّ تقسيم سورية لن يجلب الأمن، بل سيُبقي المنطقة في حالة غليان دائم. إيران، على الرغم من مصالحها، تحافظ على خطاب يركز على وحدة سورية واستقلالها، وترى في هذا الصراع فرصة لترسيخ رؤيتها الإقليمية دون الانزلاق إلى فوضى التدمير المباشر.
وسط صخب المصالح وتقاطع الأجندات، يبقى الشعب السوري هو الضحية المنسية. ملايين اللاجئين، مدن مدمّرة، وذكريات وطن تتلاشى تحت وطأة المعاناة. كلّ هذا يحدث بينما يُهمّش الحلّ السياسي، ويغيب الدعم الدولي لدولة مركزية تستطيع لملمة الجراح وإعادة بناء ما تهدم.
في هذا المشهد المتشابك، يبدو أنّ الأطراف الدولية تتصارع على مكاسب قصيرة الأمد، غافلة عن آثارها البعيدة المدى. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أنّ سورية لن تستعيد عافيتها إلا بحلّ سياسي شامل يعيد بناء الدولة ككيان موحد.
هنا، تبرز إيران كلاعب يفهم تعقيدات المنطقة، ويسعى لترسيخ استقرار طويل الأمد عبر نهج استراتيجي مدروس. في ظلّ غياب الإرادة الدولية لتحقيق الحلّ، قد يكون الطريق الوحيد لإنهاء هذه المأساة هو تعاون إقليمي يعيد ترتيب الأولويات، بعيداً عن أجندات الهيمنة والتقسيم.
بهذا الشكل، تظلّ سورية أرضاً مفتوحة على كلّ الاحتمالات، بين حلم الوحدة وكابوس التقسيم…